أساليب التنشئة وكذلك أهدافها ومعاييرها بين المجتمعات , بل يمكن أن يكون الاختلاف في أساليب التنشئة داخل الجماعات التي يتكون منها نفس المجتمع , وداخل المجتمع الواحد من وقت إلي آخر , كما تختلف هذه الأساليب من أسرة إلي أخري ومن الأب إلي الأم , بل تختلف أساليب أحدهما من وقت لآخر .
وسوف نعرض فيما يلي بعض أساليب المعاملة الوالدية التي تعبر عن اتجاه الوالدين نحو طفلهما إن كان من المعوقين .
(1) أسلوب الرفــــض : Rejection style
ينطوي الرفض الذي يقوم به الآباء تجاه طفلهما المعوق علي نوعين مختلفين, أولهما: رفض شبه دائم منذ البداية , وفي مثل هذه الحالات لا يشعر الآباء بحبهم لأبنائهم , ويوصف هذا النوع من الآباء بأنهم يحاولون إخضاع أبنائهم لبعض القواعد السلوكية باتخاذ مقاييس تتسم بالصرامة والقسوة , وقد يرجع السبب في ذلك إلي عدم تقبلهم لهؤلاء الأبناء "ذوي الإعاقة" . وثانيهما : رفض في صورة تجاهل لرغبات الأبناء , إذ أن هناك نوعاً من الآباء يهملون أبناءهم ولا يلبون طلباتهم واحتياجاتهم , وكثيرا ما يعمل الأطفال الذين يتعرضون لهذا النوع من المعاملة إلي قضاء كثير من الوقت خارج المنزل . ومكمن الخطورة هنا في احتمالية مصاحبتهم لمجموعة من رفاق السوء الذين يمارسون ألوانا مختلفة من السلوك المنحرف فيتأثرون به.
ولا يلزم بالضرورة أن يكون الرفض الوالدى رفضاً صريحاً , فقد يتميز إما برباطة الجأش واللامبالاة , والانشغال عن الطفل أو بالتسلط الإيجابي والمتطلبات الكثيرة , والعداوة المنافية للذوق السليم , وفي الرفض كثيرًا ما ينشأ الانطباع أن الوالد مبالغ في الحماية .
ففي بعض الأحيان يكون العطف الزائد والحماية الزائدة والرعاية المبالغ فيها بمثابة تكوين عكسي لرفض الطفل وعدم الرغبة فيه , وقد يكون رفض الطفل مرتبطاً بانعدام الترابط العاطفي بين الوالدين , أو نتيجة لبعض الصعوبات التي يواجهها الوالدان في تربية أطفالهما.
ولذا فإن النتيجة التي تتبع , نبذ كثير من الآباء لأطفالهم أن ينمو لدي هؤلاء الآباء الشعور بالذنب , وحتى يتجنبوا هذا الشعور فإنهم يلقون باللوم – لاشعوريا – علي وجود نقص في الطفل – إعاقة مثلاً – وهكذا يصبح الطفل كبش فداء غير جذاب , فيه نقص جسمي , أو غير ذلك من الأسباب الواهية.
إن الشعور بالذنب الذي يحرك الأب والأم يكون تعويضاً لشعورهما بالنبذ أو الرفض لطفلهما , ويدفعهما ذلك إلي العناية الزائدة به والحماية المبالغ فيها , وبهذه الطريقة يطمئن الوالدان نفسيهما علي أنهما أبوان طيبان , فيغدقان علي الطفل الهدايا والملابس والأشياء الأخرى , ويرسلانه إلي مدارس باهظة التكاليف . كما أنهما يعيبان علي المجتمع والمدرسين عداواتهما لطفلهما وتحيزهما ضده , وبهذه الحيلة الإسقاطية يحقق الأبوان شعوراً بتبرير عداوتهما نحو الطفل ويخففان من حدة الشعور بالإثم .
ويري محمد علي حسن أن تأثير ذلك الرفض والنبذ علي سلوك الطفل يجعله يقوم بألوان من السلوك التي يهدف منها لفت نظر والديه إلي وجوده وإلي حاجاته المختلفة , وقد تكون بعض هذه الألوان السلوكية وسائل انتقامية من الوالدين نتيجة تقصيرهما في تقبله أو عقاباً لهما علي سلوكهما نحوه .
ويذهب رونالد رونر Rohner, R. (1975) إلي أبعد من ذلك عندما يتحدث عن آثار الرفض الوالدى , فيري أنه قد يمتد حتى مرحلة الرشد وما بعدها , حيث يقول : "إن الراشدين الذين مروا بخبرة الرفض وهم أطفال يعانون من فقدان الحب والتقبل , كما أنهم لا يستطيعون تعويض الحب المفقود في مرحلة الطفولة" , وبالتالي تترسب الخبرة السيئة ويمتد أثرها للرشد فيصيرون منعزلين وسلبيين أثناء تفاعلهم مع الآخرين .
وعليه يمكن القول بأن الوالدين اللذين يمكن وصفهما بأنهما غير متقبلين لابنهما يتصفان بالاستياء تجاهه وينزعان إلي التقليل من شأنه ومن قدراته وصفاته الشخصية , ولا يهتمان به ولا يسعدان بصحبته , ولا يقدمان له أي تعزيز عندما يأتي بسلوك حسن , كما أنهما لا يعبئان به ولا يحترمانه ويسخران من وجهة نظره.
(2) أسلوب إثارة الشعور بالنقص :
وجود الإعاقة عند طفل ما , قد يعني أن نسبة كبيرة من محاولاته ونشاطاته سيكون مصيرها الفشل , وهذا بالطبع سيكون مثبطا لعزيمته , خاصة إذا كان الوالدان قليلي الصبر أو دائمي الانتقاد لتصرفاته , ومعايير الأداء المتوقعة من الطفل في سن معينة يكون مرجعها توقعات الوالدين لتطور الطفل ونموه . وهذه التوقعات والمعايير يتبناها الطفل بالتدريج بحيث يصبح عنده نفس المعيار الذي عند والديه يقيس عليه تصرفاته وأداءه , وعندما يقارن الطفل ذو الإعاقة أداءه بهذا المعيار الذي حدده لنفسه يجده دون المستوي المطلوب , مما يؤدي – خاصة مع التكرار – إلي ضعف في الشخصية وعدم الثقة بالذات , وبعد وقت يقصر أو يطول – حسب مدي الإعاقة – تتكون لدي الطفل حلقة مفرغة من ضعف الشخصية وانخفاض مستوي الثقة بالذات , والفشل في الأداء , ويصبح كل منهما يقود الآخر.
فإذا لم يشعر الطفل بالقدرة علي الإنجاز فإن هذا يؤدي إلي تنمية مشاعر النقص وعدم الكفاءة لديه , وهنا تبرز مسئولية الأسرة والمعلمين في ضرورة تهيئة خبرات النجاح لكل طفل , وهذا يتطلب تحديدا دقيقا لإمكانياته تحت الإشراف والتوجيه حتى يمكنه الخروج من مرحلة الطفولة الوسطي والمتأخرة بسلام ودخول مرحلة المراهقة وهو يشعر بالكفاءة والقدرة علي الإنجاز , وإلا خرج مثقلا بمشاعر النقص إذا اعتبرت الأسرة أن ما أنجزه الطفل غير ذي أهمية .
إن الخطر الحقيقي الذي يواجه الطفل خلال هذه الفترة هو أن يحاط بظروف تؤدي به إلي الشعور بالنقص والدونية , فإذا توقعنا من الطفل الكثير , وإذا شعر بأنه غير قادر علي الإنجاز لأنه ذو إعاقة فقد يفتر اهتمامه وتثبط همته .
وهذا الأمر يجعله يشعر بالتعاسة لأنه لا يقوم بدور في الوسط الذي يتحرك فيه, فكثيرا ما ينتابه الشعور بالخجل لأن إعاقته شوهت صورته , فيحاول إخفاءها بالابتعاد عن الآخرين أو الحقد عليهم , وكل هذا يزعزع بناءه النفسي , وقد يعرضه للاضطراب النفسي , ويدفعه إلي أنماط مختلفة من السلوك اللاتوافقى , وأن أول ما يتأثر بهذا الوضع هو مفهومه عن ذاته فيحط من قدر نفسه , وتتباعد المسافة بين ذاته الواقعية (جسمية كانت أو نفسية) وبين مفهومه عن ذات الآخرين , كل هذا يؤدي إلي إحساسه بالنقص وضعف الثقة بالنفس وإحساسه بعدم القدرة علي السيطرة علي البيئة المحيطة لضعفه وقلة حيلته.
وهكذا فإن الطفل ذا الإعاقة يبني ثقته بنفسه واعتماده عليها من خلال سلسلة من التصرفات والأفعال الناجحة والتي يتلقي علي أثرها القبول والتشجيع من والديه ومن الآخرين المحيطين به , وعلي العكس من ذلك يقوم بعمل سلسلة من التصرفات والأفعال الخاطئة التي قد تؤدي إلي العقاب أو التأنيب من قبل والديه أو الآخرين حوله فيشعر بفقدان الثقة بالذات والإحباط , وبالتالي فقدان الثقة سيقلل من فرص نجاحه في تصرفاته ومحاولاته المستقبلية , وسيعرضه للشعور بالنقص والدونية .
(3)
أسلوب الحماية الزائــدة : Over protection style
الحماية الوالدية الزائدة قوامها فرط الاتصال المادي بين الوالد وصغيره , واستطالة رعاية طفولته أو منع نمو اعتماده أو تعويله علي نفسه , ثم فرط تحكم الوالد أو رقابته , ولا يسمح الآباء المبالغون في الحماية لأي فرد أن يتدخل في واجباتهم الأبوية.
كما يؤكد الآباء في هذا الاتجاه حبهم للطفل ، لكن تصرفاتهم والمبالغة في الحماية له والمشوبة بالقلق قد لا تعكس ذلك، والخطاب الذي قد يفهمه الطفل هنا أن أمك أو أباك لا يثقان بك ،أنهما يعتقدان أنك لا تستطيع أن تحسن الإنجاز بمفردك.
ولعل من أهم أسباب الرعاية والحماية الزائدة إصابة الطفل بعاهة أو ضعف عقلي يدعو للعطف عليه أكثر من اللازم , فالوالدان يشعران بأنه عاجز ويختلف عن أخوته , ومن ثم فإنه في حاجة أكثر للرعاية.
ولذلك نجد أن بعض الآباء يعنون عناية خاصة بصحة أبنائهم , فنجدهم يتخذون من الأساليب اللازمة لوقايتهم من المرض , كما نجدهم ينتابهم القلق والضيق الذي يصل إلي حد الفزع والخوف حول وقاية أبنائهم من الأخطار وسلامتهم منها , ونجدهم يخافون من عدم قدرة أبنائهم علي الدفاع عن أنفسهم ضد الأطفال الآخرين , كما يميل بعض الآباء إلي إتباع بعض النظم القياسية في النظافة , وإتباع القواعد الصحية مع أبنائهم إلي درجة بعيدة.
ومثل هذه الأسرة لخوفها الشديد علي الطفل من أي مكروه , تريده أن يأكل ما لا يحبه لأنه سيغذيه , أو يأكل كميات من الطعام أكثر مما يحتاج , أو يلبس أكثر مما يحتمل حتى لا يصاب بالبرد , وتريده ألا يجري أو يلعب كغيره من الأطفال حتى لا يقع أو يجرح , وعندما يذهب إلي المدرسة غالبا ما ترافقه الأم مهما كان سنه وأينما يكون موقع المدرسة بالنسبة للمنزل , وحينما يعود تكتب له واجباته حتى لا يتعب , أو تقرأ له حتى لا ترهق عيناه , وتدافع عنه عند مدرس الفصل حتى لو أخطأ.
إن كثيرًا من الآباء الذين لديهم أطفال معوقون لا يعرفون كمية العناية والحماية المطلوبة للطفل , فهم يعتقدون أن الطفل المعوق يتطلب حماية زائدة أكثر من الطفل العادي , ولذلك فهم سيمنحونه من الوقت والجهد والنفقة المالية والمحبة الزائدة ما قد لا يكون هو في حاجة إليه وغالباً ما